بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه
.. يدعو عليك وعين الله لم تنم!!
د. فدوى بنت سلامة أبو مريفة
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً .....فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه .....يدعو عليك وعين الله لم تنم
الظلم بكل أنواعه وشتى صوره بشع وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى منه في الحديث القدسي
"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم، فلا تظالموا".
وعواقب الظلم وخيمة في الدنيا؛
نزع البركات
ومحق الرزق
ونزول المصائب والأمراض
بالإضافة إلى ما ينتظر الظالم يوم القيامة من عذاب أليم،
ولن تزول قدم يوم القيامة إلا بعد أن يُقتص منها.
وتشتد حرمة الظلم وتكوي نيرانه عندما يكون بين الإنسان وأخيه الإنسان لأن الظالم بعد أن يعود إلى رشده قد لا يتمكن من التوبة وطلب السماح والمغفرة من الشخص الذي ظلمه؛
بسبب غياب المظلوم أو رحيله أو موته.
وقد يتبادر للذهن عند سماع هذا النوع من الظلم بأنه الظلم الحسي المتعلق بالحقوق الحسية فقط، أي أن يسلب الإنسان غيره حقاً من حقوقه المادية كالمرض أو المال أو الدم وهو الذي لن أتحدث عنه في هذه الأسطر.
بل سأتطرق إلى نوع من الظلم الخفي المبطن المقنع الذي يظهر بصورة خفية من حولنا في معترك الحياة دون أن نشعر بأنه سلبٌ لحقوق الآخرين.
عمر بن عبدالعزيز، ومن منا لا يعرف الخليفة الزاهد (خامس الخلفاء الراشدين)، الذي انتشر العدل في عهده حيث أقام القسط بين الناس حتى أن الغني أصبح يسير بزكاته ولا يجد من يأخذها لتعفف الناس ورضاهم.
فقد حدثت أثناء ولايته على المدينة المنورة قصة أرقته ولم يزل يتذكرها ويتصورها أمام عينيه حتى مات، وذلك عندما أوحى الحجاج إلى الوليد بن عبدالملك بأن خبيباً بن عبدالله بن الزبير يسعى للثأر لابيه والوثوب على العرش فغضب الوليد وارسل إلى عمر يأمر بجلد خبيب (حيث كان في المدينة) مائة سوط وبحبسه وأن يصب عليه ماء بارد، فعل عمر فاشتد الوجع على خبيب فندم عمر على ذلك فأخرجه من السجن ونقله إلى آل الزبير واجتمعوا عنده حتى مات. وعندمات علم عمر بذلك سقط حتى على الأرض فزعاً تم رفع رأسه يسترجع، فلم يزل يُعرف فيه حتى مات واستعفى عمر من ولاية المدينة على إثر هذه الحادثة.
هذه القصة التاريخية من القصص المؤثرة التي اختزنها في ذاكرتي واسترجعها في مخيلتي بين حين وآخر وقد غزت مسمعي عندما كانت سيرة الخليفة الزاهد ضمن السلسلة التي كنا ندرسها لسير الصحابة والتابعين في المرحلة الثانوية.
ولا استشهد بهذه القصة لأشير إلى أن عمر بن عبدالعزيز كان ظالماً، وإنما سبب استشهادي بهذه القصة بعينها لأن صاحب الحق مات. فعمر لم يكن ظالماً وقد سطر التاريخ لنا أجل الصور وأروعها لعدله حيث كتب الله - رحمة بالمسلمين - أن يتولى هو أمرهم بعد ذلك دون رغبة منه ولا طلبة للخلافة حيث لعب رجاء بن حيوة الوزير العالم الصالح دوره بذكاء حتى تؤول الخلافة لعمر،
فانتشر العدل في عهده حتى إنه رصد الجوائز لمن يشير إلى وقوع مظلمة لم يستطع صاحبها إبلاغها. وقد كان الناس يستعظمون أعماله الجليلة فيقولون له إنك صنعت كذا وكذا.. فأبشر فيرد عليهم (كيف وخبيب على الطريق) فلازمته هذه العبارة حتى مات وقد قسم مالاً كثيراً في ذوي خبيب وقيل أنها دية خبيب.
ومن صور الظلم الخفي أطرح بعض الأمثلة: (تبوؤ المنصب مع عدم قدرة) حيث تتجسد صورة ظلم المرء لغيره عندما يتحمل أعباء منصب لا يستطيع القيام بها ويتحمل مسؤوليات هو ليس أهلاً لها.
فتجد حقوق الناس تحت تصرفه وهو لا يفقه شيئاً من لوائح وأنظمة ما يقع تحت يديه من معاملات التي يتطلب البت فيها عين واعية وذهن ثاقب، وهو بذلك قد يضر بمصالح غيره دون أن يشعر بذلك. ولا أقصد بالمنصب في المناصب ر فيعة المستوى فقط وإنما حتى الموظف البسيط في دائرته يقع تحت طائلته أمور المسلمين ويتطلب البت فيها كلمة منه أيضاً صورة أخرى من الظلم المبطن وهي (الرد على الهاتف في الدوائر الحكومية) حيث يجهل بعض الموظفين في الدوائر الحكومية بأن الهاتف الذي على المكتب هو ليس الهاتف الخاص الذي يملكه في المنزل، لذا يعتقد أن من حقه تجاهل صيحات الهاتف بين الحين والآخر. ويترتب على ذلك عدم وعيه بأن أي رنين يصدر من هذا الهاتف هو لغرض العمل وأن إهمال الرد عليه فيه إضرار لمصلحة شخص معين على الطرف الآخر (إن لم يكن لأشخاص)، وقد يكون عدم الرد إهمالاً أو لا مبالاة أو كسلاً أو لأنه لا ينتظر أمراً خاصاً به، وأي كان السبب في عدم الرد فكثير من الحقوق الواجب أداؤها في تلك اللحظة قد تؤجل (هذا إن لم تضع) بسبب عدم الرد.
والظلم الخفي له صوره أيضاً في المدارس (اسمحوا لي بالتأنيث) فنصادف أنواعاً مختلفة من المعلمات المتميزات اللاتي نفخر بهن أثناء زياراتنا للمدارس في فترة التدريب الميداني.
إلا أنني سأتحدث عن نمط المعلمة التي تُسرف في التوبيخ أو استخدام الكلمات النابية أو السخرية من إجابة الطالبة وغيرها من التصرفات التي فيها امتهان لكرامة الطالبة وزعزعة لنفسيتها، على الرغم من أن الطالبة في هذا السن الندي أكثر ما تكون في حاجة للتشجيع والثناء.
حيث إن الأسرة بحاجة لتعاون المدرسة معها في بناء شخصية الطالبة المستقلة وبلورتها لتصبح شخصية معبرة عن ذاتها، فليس من العدل أن تكون المعلمة سبباً في إثراء حصيلة بناتنا من الكلمات النابية (رُب كلمة تقول لصاحبها دعني) واتباع المعلمة لهذا الأسلوب مع الطالبة فيه سلب لحق من حقوقها النفسية والوجدانية.
وقد ترى المعلمة أن ذلك لا يعدو عن نوع من التلطف مع الطالبة بمناداتها بألقاب لا تناسبها، إلا أن هذا أيضاً عدم وعي من المعلمة بسمات المرحلة العمرية التي تمر بها الطالبة فشخصيتها ما زالت في طور النمو ولم تتحدد معالمها وبالتالي جهل المعلمة بمتطلبات هذه المرحلة الحرجة. ولعلني هنا استشهد بحادثة حصلت لإحدى الطالبات التي تحقق حلمها بأن التحقت بالقسم الذي طالما حلمت به،
وعندما أرادت منها أستاذة إحدى المقررات الإجابة أشارت إليها (الطالبة الدبة) وهو من باب التعريف بها وليس الاستهزاء وكانت هذه الكلمة كفيلة بأن تعتذر الطالبة عن الدراسة لمدة عام لتلتحق في العام الذي يليه بقسم آخر وقد انقصت من وزنها حتى لا تُعرف في القسم الجديد بالدبة.
مرة أخرى نصادف أنواعاً مختلفة من المعلمات المتفوقات المبدعات اللاتي نفخر بهن، إلا أنني سأتحدث عن نمط المعلمة التي تُسرف في أناقتها وزينتها وتعجز عن أن تسرف في شرحها للطالبات. وتحضر للحصة وكأنها حضرت إلى صالة عرض يزين أناملها الجوال ولا يزين يديها أي وسيلة من وسائل الشرح،
تقف أمام الطالبات وهي عاجزة عن نقل معلومات للدرس الجديد بصورة جيدة لأنها اعتادت التحضير غير الجيد الدرس أو عدم التحضير مطلقاً والسبب في ذلك أنها ستعيد ما شرحته العام الماضي والذي قبله والذي قبله وهكذا.. إن حق الطالبة على المعلمة أن تأخذ منها هذه المعلومة لأنها لا يمكن أن تأخذها من غيرها فلو أدركت المعلمة ذلك لعرفت أنه بتقصيرها في شرح الدرس فإنها تسلب الطالبة حقاً من حقوقها وهيهات أن تجدها بعد ذلك (إن بحثت عنها) حتى ترد لها ما سلبته منها.
وأخيراً فهناك الظلم الخفي والواضح وهو التمييز بين الأبناء. كنت قد تحدثت سابقاً عن ظلم الأبناء لآبائهم بعقوقهم لهم إلا أن أيضاً قد يظلمون فنجد البعض منهم يميل إلى أحد أبنائه دون الآخر فيغدق الحب على هذا الابن ويميزه في المعاملة والكلمة الطيبة وربما في التغاضي عن بعض أخطائه، وقد يتجاوز هذا التفريق حده عندما يصل إلى إنقاص الحقوق المادية لبقية الأبناء من أجل إرضاء هذا الابن المميز. وهذا النوع من الظلم يقع ضرره على تكوين شخصية الأبناء ونظرتهم للحياة والمجتمع من حولهم مما قد يؤثر سلباً على سلوكياتهم ويدعوهم لتقمص شخصية الظالم مستقبلاً. وختاماً نسألك اللهم أن تجنبنا وجميع المسلمين الظلم وأن توفقنا للعدل في الشدة والرخاء والرضا والغضب وتقينا شر أنفسنا.